برغراف
في خطوة دراماتيكية وغير مسبوقة لإعادة تشكيل أعلى سلطة قضائية في العراق، نجح رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، في دفع رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم محمد عبود، إلى تقديم استقالته، مما عزز قبضته على أقوى هيئة دستورية في البلاد.
ما بدأ كصراع خفي على النفوذ بين اثنين من أبرز القضاة، تحول سريعا إلى أزمة سياسية وقانونية، وانتهى بإحكام زيدان سيطرته الفعلية على المحكمة، في وقت تتزايد فيه المخاوف من تآكل استقلال القضاء قبل الانتخابات العامة المقبلة.
استقالات جماعية وطلبات تقاعد
بدأت الأزمة في 19 حزيران، حين قدم ستة من أصل تسعة أعضاء في المحكمة الاتحادية العليا، إضافة إلى ثلاثة قضاة احتياط، طلبات استقالة جماعية احتجاجا على إدارة القاضي عبود. وبحسب مصادر مطلعة، جاءت هذه الخطوة بهدف الضغط على عبود ودفعه إلى تقديم استقالته.
وكشف مصدر قضائي رفيع لبرغراف أن القضاة اجتمعوا بعبود في 22 حزيران لمناقشة الخلافات. وقال المصدر: “كان القضاة قلقين من التوترات المستمرة بين المحكمة ومجلس القضاء، وأبلغوا عبود بعدم قدرتهم على الاستمرار في هذه الأجواء. وفي نهاية اللقاء، قرر عبود والقضاة الآخرون التقدّم بشكل جماعي بطلبات إحالة إلى التقاعد.”
بعد الاجتماع، قدم القضاة طلبات تقاعد رسمية إلى مجلس القضاء الأعلى. اللافت أن القضاة الستة الذين استقالوا في البداية، سحبوا استقالاتهم لاحقا، وفضّلوا التقاعد الذي يضمن لهم مستحقاتهم الكاملة.
قال المصدر إن “رئيس المحكمة وجميع القضاة طلبوا إحالتهم إلى التقاعد لأسباب صحية، فقامت اللجنة الطبية بإعداد التقارير اللازمة لهم”.
إشارة إلى أن جميعهم لايصلحون للعمل ويتم إحالتهم إلى التقاعد، غير ان في 29 حزيران مجلس القضاء فقط وافقت على احالة رئيس المحكمة إلى التقاعد حسب التقرير، مبررا القرار بـ”أسباب صحية”، فيما سحبت باقي الطلبات، وعاد القضاة إلى مناصبهم.
وقال مجلس القضاء في بيان: “سحب قضاة المحكمة الاتحادية طلباتهم بعد زوال الأسباب التي دفعتهم إلى التقاعد”، مشيدا بعودتهم.
وبإقالة عبود فقط، فتح الباب أمام زيدان لإعادة ترتيب قيادة المحكمة بالشكل الذي يعزز هيمنته.
تثبيت الهيمنة: زيدان يترأس الاجتماع الأول
في الأول من تموز، ترأس فائق زيدان اجتماعا للمحكمة الاتحادية العليا بتشكيلتها الجديدة، حضره الرئيس المعين حديثا، منذر إبراهيم، وجميع القضاة المتبقين – في مشهد رمزي يؤكد سيطرته.
وقال مصدر قضائي مطلع لبرغراف: “لقد فرض زيدان هيمنته على المحكمة. كان القاضي عبود يعتقد أن المحكمة يجب أن تكون مستقلة كليا، وأن زيدان، كرئيس لمجلس القضاء، لا يملك صلاحية التدخل أو رئاسة اجتماعاتها”.
وأضاف: “إذا نشأ نزاع قانوني بين المجلس وأي جهة أخرى، فإن المحكمة هي الجهة التي يجب أن تفصل فيه، وينبغي ألا تكون تحت وصاية المجلس”.
لكن مع خروج عبود من المشهد وتثبيت زيدان لسيطرته، تلاشت الحدود بين المحكمة ومجلس القضاء الأعلى، ما يثير القلق بشأن مبدأ الفصل بين السلطات.
وفقا لتحقيق أجرته برغراف، لم تكن الأزمة إدارية بحتة، بل ذات طابع شخصي وسياسي عميق.
الخلاف الطويل بين زيدان وعبود عطل التنسيق القضائي لشهور، وأثار قلق الأحزاب الشيعية المهيمنة، التي تنظر إلى القضاء كأداة محورية لضبط توازنات السلطة بعد الانتخابات.
وقال مسؤول سياسي رفيع: “رأت القوى الشيعية أن الخلاف أضر بمصالحها، وكان لا بد من حسم الموقف. فاختاروا زيدان، وأطاحوا بعبود”.
رغم أن ما حدث بدا كخلاف داخلي في الجهاز القضائي، يصر مطلعون على أن ما جرى كان مدفوعًا بأجندات سياسية واضحة.
وقال مصدر قضائي: “خطوة التقاعد الجماعي لم تكن طبيعية. هناك مؤشرات قوية على تدخل سياسي مباشر دفع باتجاهها”.
وتزايدت الضغوط على المحكمة مع اقترابها من إصدار حكم حاسم بشأن استمرار صرف رواتب موظفي إقليم كوردستان، التي لا تزال متوقفة منذ شهر أيار.
المحكمة الاتحادية في مواجهة المجلس
عمقت الأزمة الخلاف الهيكلي بين المحكمة الاتحادية، المكلفة بتفسير الدستور، ومجلس القضاء الأعلى، المسؤول عن إدارة الجهاز القضائي.
في السنوات الأخيرة، وسعت المحكمة صلاحياتها وأصدرت أحكاما مثيرة للجدل بشأن قضايا النفط، والانتخابات، وصلاحيات البرلمان، ما خلق احتكاكًا متزايدا مع مجلس القضاء.
وفي أيار 2024، ألغت محكمة التمييز قرارا للمحكمة الاتحادية بمنح القاضي علي بنيان كهات استحقاقات تقاعدية دون توافر الشروط، مؤكدة أن مجلس الخدمة الاتحادي لا يملك تعديل التشريعات، ومثبتة بذلك سلطتها الرقابية على المحكمة.
ويخشى قانونيون أن يعاد النظر في بعض الأحكام السابقة، خصوصا تلك المتعلقة بالحكم الذاتي في إقليم كوردستان.
قرارات مثيرة للجدل
أبرز القرارات المثيرة للجدل للمحكمة الاتحادية تشمل:
• إبطال قانون النفط والغاز في إقليم كوردستان، وإخضاع الموارد الطبيعية للسلطة الاتحادية
• تعديل نظام الانتخابات لما بعد 2021، في خطوة اعتُبرت تمكينا لـ”حكم الخاسرين”
• إلغاء عضوية رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، في قرار اعتبر تدخلا مباشرا في الصراع السياسي السني
وجاءت هذه القرارات بعد تعديل القانون رقم 30 لسنة 2005 في عام 2021، الذي ألغى دور إقليم كوردستان في تعيين قضاة المحكمة، ما أثار اتهامات بفقدان المحكمة لطابعها الاتحادي وتحولها إلى هيئة مسيّسة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقررة في 11 تشرين الثاني 2025، تلقي هذه التطورات بظلال ثقيلة على المشهد السياسي، خصوصا أن المحكمة الاتحادية هي الجهة المخولة بالمصادقة على النتائج، والبت في النزاعات الانتخابية، وشرعية الإجراءات الحكومية.