الصحراء التي ابتلعت الأحلام: هنا صرخ الأطفال الکورد للمرة الأخيرة

14-04-2025 03:23

برغراف- هفال غالب

لم يكن الطريق الطويل الى تل الشيخ مجرد رحلة في الصحراء، بل كان اخر مشهد في حياة الاف من الكورد الذين اقتيدوا قسرا من قراهم الى مراكز الاحتجاز، ثم الى المقابر الجماعية التي اصبحت شاهدا على احدى ابشع جرائم العصر.

تمتد المسافة من اقصى حدود اقليم كوردستان الى صحراء تل الشيخ في محافظة السماوة، حيث تقع اكبر المقابر الجماعية لضحايا الانفال، لنحو 715 كيلومترا. وعلى طول هذا الطريق القاحل، لا شيء يرى سوى السماء الممتدة ورمال الصحراء الصامتة.

“كم كانت النساء والاطفال مرعوبين؟ ما الحالة النفسية التي عاشوها؟ وكيف عاملهم الجنود بوحشية؟ ربما، عندما وصلت الشاحنات العسكرية الى اطراف المقابر، تمنوا قطرة ماء ونهاية لمعاناتهم، لا ان يدفنوا احياء”، يقول هابيل احمد، مدير نصب الانفال التذكاري في جمجمال.

في وقت سابق من هذا العام، رافق هابيل مجموعة من الناجين في زيارة الى المقابر الجماعية في تل الشيخ، حيث دفنت رفات نساء واطفال قضوا خلال حملات الانفال.

كثير من هؤلاء الضحايا لم يغادروا قراهم في حياتهم كلها، ولم يتخيلوا ان رحلتهم الوحيدة ستكون بهذا الشكل، في شاحنات مغلقة، عبر الصحراء، تحت تهديد السلاح. يسأل هابيل نفسه اليوم: كم كانت هذه الرحلة قاسية؟ كم عانوا من الجوع والرعب والارهاق في تلك الظروف القاسية؟

“لا الكلمات ولا الكتابة تستطيع وصف حجم المأساة التي تعرض لها شعب كوردستان العراق”، يضيف هابيل في حديثه لبرغراف. “هناك، في قلب الصحراء، تدرك حجم الكراهية والوحشية التي دفن بها الابرياء من نساء واطفال ورجال”.

خلال حملات الانفال في ثمانينيات القرن الماضي، هجر نظام البعث الافا من الكورد قسرا الى صحارى الجنوب، حيث تم اعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية، بعضها لا يزال مجهول الموقع حتى اليوم.

يقول هابيل ان “المقبرة التي زرناها كانت بطول 17 مترا، وعرضها خمسة امتار، وعمقها متر واحد، حفرت يدويا. وعلى بعد 30 مترا، كانت هناك مقبرة اخرجت عام 2019 تضم رفات 172 امراة وطفلا. وقد عثر على ثلاث مقابر اضافية لم تفتح بعد”.

في تل الشيخ، اخرجت رفات 172 ضحية، واعيد دفنها في جمجمال في فبراير 2024 بعد فحصها من قبل الطب الشرعي. ومؤخرا، تم استخراج 153 رفاتا من السماوة، ارسلت الى معهد الطب العدلي في بغداد لاجراء فحوص الحمض النووي.

حتى الان، تم استخراج 1745 رفاتا من مقابر جماعية في وسط وجنوب العراق، اعيد دفنها جميعا في كوردستان.

تقول باري نوري، مستشارة الرئاسة العراقية لشؤون المقابر الجماعية وممثلة السيدة الاولى، لبرغراف: “الفريق الذي يعمل في هذا الملف هو ذاته الذي يستخرج رفات ضحايا الانفال وداعش والحرب العراقية الايرانية، ويعمل بدقة علمية وانسانية وفق المعايير الدولية”.

مقابر الانفال الجماعية منتشرة في مناطق عدة بالعراق:

• في الموصل، تم استخراج رفات 256 شخصا، اعيد دفنها في دوكان، السليمانية عام 2008.
• في سجن الدبز العسكري، اخرجت رفات 106 ضحايا، بينهم 104 اطفال وامراة حامل، واعيد دفنهم في جمجمال عام 2010.
• في النجف، اعيد دفن 187 رفاتا في كرميان عام 2014.
• من صحراء مهاري، نشبت 730 رفاتا، اعيدت الى جمجمال في 2012.
• جبل حمرين شهد نقل 158 رفاتا الى كرميان عام 2012.
• قرب سجن نقرة سلمان، اخرجت 56 رفاتا واعيد دفنها في كرميان.
• وفي قاعدة طوبزاوا العسكرية في كركوك، عثر على 80 رفاتا عام 2013.

تخضع عمليات تحديد مواقع المقابر واستخراج الرفات وتوثيقها لقانون شؤون المقابر الجماعية العراقي رقم 5 لسنة 2006، وتشرف عليها لجان متخصصة.

توضح نوري ان “توضع الرفات في اكياس مخصصة، وتنقل الى بغداد لاخذ عينات الحمض النووي. لكن غياب قاعدة بيانات مركزية لضحايا الانفال يعطل عملية التعرف على الهويات”.

بعد اجراء الفحوص، تعاد الرفات الى كوردستان وتدفن اما في جمجمال او كرميان. واي وثائق او بطاقات تعثر عليها تستخدم لتحديد الهوية مستقبلا.

“لا يمكن لمعهد بغداد الطبي الاحتفاظ بجميع الرفات الى اجل غير مسمى، وتأخير الاعادة يعيق استمرار عمليات الاستخراج”، تضيف نوري.

في المعهد، يعيد خبراء الطب الشرعي تركيب الهياكل العظمية، ويأخذون عينات، ويحددون رموزا بيولوجية. وبموجب توجيه من السيدة الاولى، شكلت لجنة لجمع عينات دم من الناجين، وقد جمعت حتى الان 2250 عينة من جمجمال وكرميان وكويا.

تقول نوري: “حثثنا الفريق على تسريع عملية تحديد الهوية، لتوثيق الجرائم دوليا واثبات وقوع الابادة بحق الكورد”.

وفي عام 2007، اعترفت المحكمة الجنائية العراقية العليا بحملات الانفال كابادة جماعية، استنادا الى شهادات الشهود والمعايير الدولية.

من بين 172 رفاتا اعيدت الى جمجمال، عثر على بطاقات تعريف، بينها بطاقة جوهر كاني هانجيري، الذي فقد 11 فردا من عائلته في المرحلة الرابعة من الانفال في اغجلار.

يسعى جوهر اليوم لمعرفة مصير اقاربه، بعد التعرف على رفات شقيقه، وقد سافر مع ناجين من جمجمال الى الصحارى لمعاينة المقابر باعينهم.

“الطريق طويل ومرهق، حتى مع وسائل النقل الحديثة. تذكرت احدى الناجيات، امراة مسنة، قالت عبر التلفاز: اخذونا… اخذونا… بعيدا جدا. قلبي انكسر. كيف تحملوا ذلك في شاحنات عسكرية مغلقة؟”، قال جوهر لبرغراف.

يروي احد الناجين ان ضابطا فصل بين ام وطفلها، وعندما حاول الطفل الركض اليها، امسك به وكسر رقبته امامها والقى بجثته.

على بعد ستة كيلومترات من نقرة سلمان، راى جوهر مقبرة جماعية حديثة، حيث تداخلت رفات النساء والاطفال، في مشهد مؤلم.

“كان واضحا انهم احتضنوا بعضهم قبل الموت. رايت زجاجات اطفال، العاب، اوشحة ومرايا. كانوا يأملون البقاء احياء حتى اللحظة الاخيرة”.

تقول باري نوري ان زيارة عائلات الانفال للمقابر الجماعية مهمة لكنها مؤلمة للغاية. “المواقع بعيدة ولا تتوفر فيها مرافق طبية، والكثير من الزوار يعانون من صدمة نفسية قد تؤثر على سير العمل”.

عاد هابيل احمد من زيارته وهو يحمل الما لا ينسى: “كانت الامهات معصوبات باوشحتهن، والاطفال مكممين، واغلفة الرصاص لا تزال على اطراف القبور، بل بعضها داخلها”.

استمرت حملات الانفال سبعة اشهر، من فبراير الى سبتمبر 1988، عبر ثماني مراحل، ادت الى اختفاء اكثر من 182 الف شخص، وتدمير الاف القرى، في واحدة من ابشع صفحات التاريخ العراقي الحديث.