
برغراف
في وقت كان موظفو القطاع العام في اقليم كوردستان ينتظرون بفارغ الصبر صرف رواتب شهر ايار، سادت موجة من الاحباط واليأس بعد اعلان مفاجئ من بغداد: لن تحول رواتب ايار، بل ان رواتب الاشهر الثمانية المتبقية من عام 2025 باتت مهددة ايضا.
ابلغت وزيرة المالية العراقية، طيف سامي، حكومة اقليم كوردستان رسميا بان حصة الاقليم البالغة 12.67 بالمئة من الميزانية الاتحادية قد استنفدت بالكامل. وبينت سامي في رسالتها ان الايرادات النفطية وغير النفطية المحصلة من الاقليم للاعوام 2023 و2024 و2025، الى جانب المبالغ الشهرية المخصصة للرواتب، تفوق المبالغ القانونية المخصصة له ضمن الميزانية.
واضافت سامي: "لقد تجاوز اقليم كوردستان حصته البالغة 13 تريليونا و547 مليار دينار. ان استمرار التحويلات يشكل خرقا لقانون الموازنة وقرارات المحكمة الاتحادية العليا". كما انتقدت حكومة الاقليم لفشلها في تطبيق نظام توطين الرواتب عبر المصارف، وهو مطلب متكرر من بغداد.
اثار القرار غضبا واسعا بين المسؤولين الكورد، الذين اتهموا الحكومة الاتحادية باستخدام الادوات المالية للضغط السياسي. وجاء توقيت الرسالة بعد عشرة ايام فقط من توقيع حكومة الاقليم اتفاقية نفط وغاز ضخمة بقيمة 110 مليارات دولار مع شركات امريكية، ما اعتبر من قبل العديد من المسؤولين الكورد خطوة انتقامية من بغداد.
وقالت الدكتورة نرمين معروف، العضوة الكوردية في اللجنة المالية النيابية، بعد زيارتها لوزارة المالية: "هذه الرسالة ليست مسألة محاسبة او قانون، بل تحمل طابعا سياسيا واضحا، وتتناقض مع قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 224".
من جهته، وصف نائب وزير المالية السابق، ريباز حملان، الخطوة بانها جزء من حملة ضغط سياسي تمارسها بغداد على اقليم كوردستان. واضاف: "رغم قرارات المحكمة، لم يتم تحويل كامل حصة الاقليم في ميزانية 2025، اذ خصص 11.5 تريليون دينار للرواتب، ولم يصرف منها سوى 3.8 تريليون فقط".
وحذر حملان من ان هذا المسار لا يضر حكومة الاقليم فقط، بل يمس حياة نحو مليون وربع المليون موظف ومتقاعد يعتمدون على دخلهم الشهري. وقال: "ما يحصل هو اعتداء على شعب كوردستان. على بغداد ان تتوقف عن استخدام الرواتب كسلاح".
بدوره، اعرب النائب سوران عمر عن قلقه، وقال لـ "برغراف": "في العام الماضي، ظهرت ازمة مشابهة في تشرين الاول، واليوم تتكرر في ايار، مما يشير الى تسارع خطير في النزاع". واضاف: "عدم صرف الرواتب لثمانية اشهر سيشكل كارثة انسانية حقيقية".
تاتي الازمة في خضم تصاعد التوترات السياسية والاقتصادية بين اربيل وبغداد. ففي 18 ايار، وقعت حكومة الاقليم اتفاقيتين ضخمتين للطاقة في واشنطن مع شركتي HKN/Onex (التابعة لميران للطاقة) وغرب زاغروس، في خطوة اشرف عليها مباشرة رئيس الوزراء مسرور بارزاني، متجاوزا بذلك الحكومة الاتحادية.
قال بارزاني خلال مراسم التوقيع: "تثبت هذه الاتفاقيات، البالغة قيمتها مليار دولار، التزام اقليم كوردستان بالسلام والتنمية الاقتصادية"، مؤكدا ان المشاريع ستوفر الكهرباء على مدار الساعة، مع امكانية تصدير الفائض للمحافظات الاخرى.
وتقدر احتياطات حقلي ميران وتوبخانة بـ 13 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و9 ملايين برميل من النفط، ويتوقع ان يبدأ الانتاج خلال 18 الى 20 شهرا بمعدل 50 الى 70 مليون قدم مكعب من الغاز يوميا. ورغم ان الطاقة الانتاجية المركبة في الاقليم تبلغ 8189 ميغاواط، الا ان الانتاج الحالي لا يتجاوز 4500 ميغاواط.
لكن العقود الجديدة قائمة على نموذج تقاسم الارباح، وهو ما ترفضه وزارة النفط العراقية، التي تصر على ان جميع الصفقات النفطية يجب ان تمر عبر بغداد.
وفي اليوم ذاته لرسالة طيف سامي، قدم نائبان عراقيان – احدهما نوري المالكي – طعنا لدى المحكمة الاتحادية للمطالبة بوقف تنفيذ عقود الطاقة الجديدة فورا. وقال المالكي في مؤتمر صحفي: "نطالب المحكمة بتعليق هذه العقود واعلان بطلانها، فهي تمس السيادة وتتجاوز المؤسسات الاتحادية".
وافادت ثلاثة مصادر لرويترز بان وزارة النفط العراقية قدمت بالفعل دعوى قضائية ضد حكومة الاقليم على خلفية العقود. ولم يعلن عن مكان اقامة الدعوى، لكن وثيقة اطلعت عليها رويترز تؤكد تقديمها.
ورغم التصعيد القانوني، اعلنت الولايات المتحدة دعمها لاتفاقيات الطاقة مع اقليم كوردستان. ففي 28 ايار، اجرى وزير الخارجية الامريكي، ماركو روبيو، اتصالا هاتفيا برئيس الاقليم، نيجيرفان بارزاني، لمناقشة التعاون الثنائي في مجال الطاقة. وورد في بيان صادر عن حكومة الاقليم: "تواصل الولايات المتحدة دعم استقرار وازدهار العراق، بما في ذلك اقليم كوردستان".
واشادت المتحدثة باسم الخارجية الامريكية، تامي بروس، بالتوسع في الشراكات بين الاقليم والشركات الامريكية، معتبرة انه "يعزز استقلال العراق في مجال الطاقة". واضافت: "نشجع استمرار الحوار البناء بين اربيل وبغداد".
تسلط ازمة الرواتب المستمرة الضوء على عمق الخلافات بين بغداد واربيل حول النفط والميزانية والصلاحيات الدستورية، وهي خلافات تعود لاكثر من عقد من الزمن، وتترك المواطن العادي ضحية لتجاذبات سياسية متواصلة.
ورغم قرارات المحكمة الاتحادية التي دعت لصرف الرواتب بشروط محددة، الا ان التنفيذ بقي متعثرا. ويواجه الاف الموظفين والمتقاعدين في الاقليم مستقبلا غامضا من دون دخل ثابت.
تقول احمد علي، وهو معلم من السليمانية، لـ "برغراف": "لا يمكن لشعب كوردستان ان يعيش على الوعود والخطابات السياسية. نحتاج الى حل حقيقي – لا الى نزاعات مستمرة".
ويتزايد الضغط الشعبي لتوحيد الصف الكوردي، اذ دعا حملان ومسؤولون اخرون الاحزاب الكوردية الى تجاوز الخلافات السياسية وتشكيل جبهة موحدة لحماية الحقوق المالية للاقليم.
ومع غياب اي بوادر للحل، يهدد هذا الجمود المالي بتفجير ازمة اكبر – اقتصادية وسياسية – في وقت لم تعد فيه المنطقة تتحمل المزيد من الانهيارات.