المحكمة الاتحادية العراقية تتجه نحو الحل وسط تصاعد الصراع القضائي

23-06-2025 04:34

برغراف

في تطور دراماتيكي في تاريخ القضاء العراقي، قرر رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا بشكل جماعي تقديم طلبات إحالة إلى التقاعد لدى مجلس القضاء الاعلى، في خطوة تعد بمثابة حل فعلي للمحكمة العليا في البلاد. تأتي هذه الخطوة وسط تصاعد حاد في الخلافات الداخلية والضغوط السياسية، وذلك في وقت حساس يسبق الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة بعد أشهر.

وأكد مصدر رفيع في بغداد لـ"برغراف" صحة هذا التطور، مشيرا إلى أن اجتماعا عقد يوم السبت ٢١ حزيران ٢٠٢٥، بحضور رئيس المحكمة الاتحادية القاضي جاسم محمد عبود وأعضاء المحكمة، بمن فيهم القضاة الستة الذين سبق أن قدموا استقالاتهم مطلع الشهر، تم خلاله مناقشة أسباب الاستقالة وبلورة موقف موحد بشأن مستقبل المحكمة.

وقال المصدر إن القضاة أعربوا خلال الاجتماع عن قلقهم الشديد إزاء استمرار الخلافات العميقة مع مجلس القضاء الاعلى، وأكدوا أنهم لا يستطيعون مواصلة مهامهم القضائية في ظل هذه الأجواء المتوترة والمشحونة بالتجاذبات السياسية والصراعات المؤسسية.

وأوضح أن القضاة أبلغوا رئيس المحكمة رفضهم العودة إلى مناصبهم، ما دفعه إلى اتخاذ قرار جماعي بتقديم طلبات إحالة إلى التقاعد، بدلا من البقاء في حالة شلل قضائي دائم.

وأشار المصدر إلى أن جميع أعضاء المحكمة، دون استثناء، قدموا فعليا طلباتهم الرسمية يوم الاحد ٢٢ حزيران، قائلا إنهم طلبوا من مجلس القضاء إحالتهم جميعا إلى التقاعد، في خطوة تعني فعليا فراغ المحكمة من قوامها القانوني والمؤسسي.

ومن اللافت أن القضاة الستة الذين قدموا استقالاتهم يوم ١٩ حزيران قرروا لاحقا سحبها لغرض استيفاء متطلبات التقاعد، إذ لا تمنح الاستقالة وحدها، بحسب القانون العراقي، الحق في تقاضي معاشات تقاعدية، خلافا لطلب الإحالة إلى التقاعد الذي يكفل هذا الحق.

جذور الازمة: صراع بين فائق زيدان وجاسم عبود

تشير تحقيقات "برغراف" إلى أن هذا التطور جاء نتيجة تراكمات صراع طويل بين رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي فائق زيدان، ورئيس المحكمة الاتحادية القاضي جاسم محمد عبود، حيث تصاعدت الخلافات بين المؤسستين القضائيتين إلى مستويات غير مسبوقة.

وبحسب مصادر متعددة، فإن هذا النزاع لم يعد سرا، بل أصبح علنيا، خاصة بعد إصدار المحكمة الاتحادية قرارات حساسة تتقاطع مع اختصاصات مجلس القضاء. هذا التوتر أثار قلقا متزايدا لدى القوى السياسية الكبرى، لا سيما الأحزاب الشيعية التي تملك نفوذا واسعا في النظام القضائي العراقي.

وقال مسؤول سياسي بارز لـ"برغراف" إن الأحزاب الشيعية الرئيسة التي تهيمن على السلطة القضائية تعتبر أن الصراع المفتوح بين زيدان وعبود يهدد استقرار الدولة، ولذلك قررت ترجيح كفة أحد الطرفين.

وبحسب المصدر، فإن القرار النهائي صب لصالح فائق زيدان، في حين طُلب من جاسم عبود وأعضاء المحكمة التنحي. وقد أثمرت الضغوط السياسية عن تقديم عبود وزملائه طلبات التقاعد، ما يعزز من تفوق زيدان المؤسسي في المعادلة القضائية.

تتألف المحكمة الاتحادية من رئيس ونواب، وسبعة قضاة دائمين، وأربعة قضاة احتياطيين، وهي الهيئة العليا المختصة بالفصل في القضايا الدستورية وتفسير النصوص الدستورية والمصادقة على نتائج الانتخابات.

ويتم تعيين رؤساء السلطات القضائية، بما في ذلك رئيس المحكمة الاتحادية، ورئيس مجلس القضاء، ورئيس الادعاء العام، ورئيس الاشراف القضائي، من كبار القضاة، ويفترض أن يمثل بعضهم إقليم كوردستان لضمان التوازن الاتحادي، وهو ما أصبح محل جدل منذ تعديل قانون المحكمة عام ٢٠٢١.

ويأتي حل المحكمة في لحظة سياسية وقانونية حرجة، إذ من المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية في ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٥. وبحسب الدستور، فإن المحكمة هي الجهة الوحيدة المخولة بالمصادقة على النتائج وتثبيت عضوية الفائزين في البرلمان.

ومع إحالة القضاة إلى التقاعد، تواجه البلاد فراغا دستوريا يتطلب تشكيل محكمة جديدة خلال وقت قصير، وهي مهمة صعبة في ظل الانقسام السياسي والاستقطاب الطائفي والإثني داخل المؤسسات العراقية.

استقالات جماعية سبقت التقاعد الجماعي

شهدت المحكمة قبل أيام استقالات جماعية مفاجئة شملت ستة من تسعة قضاة دائمين، وثلاثة من أربعة قضاة احتياطيين، في خطوة اعتُبرت تمهيدا لانهيار المحكمة.

وقال مصدر مطلع لـ"برغراف" إن الاستقالات قُدمت إلى مجلس القضاء، وليس إلى رئيس المحكمة، ما يعكس عمق الشرخ بين المؤسستين.

وأضاف أن الصراع تصاعد يوما بعد يوم، وبلغ ذروته مع الخلافات حول بعض القرارات القضائية والسياسية، ما أدى إلى انهيار الثقة داخل المحكمة.

وأكد المصدر أن إحالة القضاة إلى التقاعد ليست مجرد إجراء إداري، بل تُعد خطوة سياسية بامتياز جاءت نتيجة ضغوط من مراكز القوى، خصوصا داخل السلطة القضائية.

وكان من المتوقع أن تصدر المحكمة حكما مهما في قضية تتعلق برواتب موظفي إقليم كوردستان، وهي مسألة معلقة منذ أشهر. وكان الموظفون ينتظرون قرار المحكمة لاستئناف صرف رواتبهم من الحكومة الاتحادية، بعد توقفها منذ عدة أشهر، وبالتحديد راتب شهر أيار.

حتى الآن، لم تُصرف سوى أربعة رواتب فقط خلال عام ٢٠٢٥، ما زاد من الغضب الشعبي في الإقليم، وأدى إلى احتجاجات متكررة وسط اتهامات للحكومة الاتحادية بتسييس الملف المالي للإقليم.

تحليل مؤسسي: تصدع العلاقة بين المحكمة ومجلس القضاء

تعكس هذه الازمة تصدعا عميقا بين أعلى مؤسستين قضائيتين في العراق، هما المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء، حيث تتعلق جذور التوتر بقضايا تمس توزيع الصلاحيات، والتدخل السياسي، وتفسير الدستور.

فالمحكمة هي الجهة الوحيدة المخولة بتفسير الدستور والفصل في القضايا الدستورية، بينما يتولى مجلس القضاء الإدارة العامة للسلطة القضائية. لكن السنوات الاخيرة شهدت توسعا في صلاحيات المجلس، من خلال قرارات ذات طابع سياسي مثير للجدل، يعتقد كثيرون أنها تتجاوز صلاحياته القانونية.

من أبرز تلك القرارات، إلغاء قانون النفط والغاز الذي أقره برلمان كوردستان، حيث أكدت المحكمة أن السلطة الاتحادية هي صاحبة الحق الحصري في إدارة الثروات، وهو ما اعتبره قادة كوردستان ضربة للفيدرالية.

كما تدخلت المحكمة في آليات انتخاب رئيس الجمهورية بعد انتخابات ٢٠٢١، وغيّرت موازين القوى داخل البرلمان، ما أدى إلى اتهامات بتسييس القضاء لصالح "حكم الخاسرين"، في إشارة إلى إقصاء الكتلة الصدرية.

وفي ٢٠٢٣، ألغت المحكمة عضوية رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، في ما اعتبر تدخلا مباشرا في شؤون السلطة التشريعية.

وتصاعد الجدل بعد تعديل قانون المحكمة عام ٢٠٢١، الذي ألغى تمثيل إقليم كوردستان في تعيين القضاة، ما أثار انتقادات واعتبر خرقا للفيدرالية وتحويلا للمحكمة إلى مؤسسة ذات طابع مركزي.

وفي أيار ٢٠٢٤، ألغت محكمة التمييز الاتحادية حكما أصدرته محكمة الخدمات لصالح القاضي علي بنيان، اعتبر مخالفا لشروط التقاعد، وأكدت التمييز أن محكمة الخدمات لا تملك صلاحية تعديل القوانين، في خطوة فسرت على أنها بداية لمراجعة قرارات تؤثر على الحكم الذاتي الكوردي.